هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

"الست" قراءة جديدة في أسطورة خالدة

 

.. أحمد مراد يشعل الشرارة ومنى زكي تصنع الروح

لم يكن مجرد فيلم يشاهده الجمهور بل كان لحظة التقاء بين الماضي والحاضر حين يظهر أحمد مراد الشاب الذي عرفته طالبا وهو يطلق الشرارة التي أشعلت كل المشهد. منذ اللحظة الأولى شعرت بأن السينما المصرية أمام تجربة استثنائية ... نص ينبض بالحياة ويعيد اكتشاف أسطورة كوكب الشرق بطريقة لم نرها من قبل. أما أداء منى زكي فقد أعطى الشخصية روحا جديدة ليصبح الفيلم حدثا فنيا يتجاوز مجرد السيرة إلى تجربة معايشة كاملة على الشاشة.
بدأت مشاهدتي وأنا أتابع كيف استطاع أحمد مراد أن يوازن بين المعرفة البحثية الدقيقة والقدرة السردية العالية بحيث لا يتحول العمل إلى وثيقة جامدة ولا إلى خيال مفتوح بلا أساس. لقد أبدع في تفكيك السيرة من منظور نفسي واجتماعي وأعاد رسم أبعاد أم كلثوم الإنسانية مع الحفاظ على احترام إرثها الفني. النص متماسك الانتقالات بين مراحل حياتها والإيقاع الداخلي للأحداث مضبوط بطريقة تجعل المشاهد يعيش مع الشخصية كل لحظة دون أن يفقد الإحساس بوحدة العالم الدرامي.
أما الإنتاج فقدم عملا متكاملا من مواقع التصوير والديكورات والملابس التي عكست روح الزمن إلى الموسيقى التصويرية التي لم تفرض نفسها على المشاهد بل سمحت له بالغوص في أعماق الشخصيات والمواقف. كل عنصر من عناصر الإنتاج كان جزءا من رؤية متماسكة تعمل على تعزيز السرد وهو ما يجعل الفيلم تجربة قريبة من المعايير العالمية من حيث الانسجام والتكامل الفني.
وفي قلب هذه التجربة يقف الأداء التمثيلي حيث تبرز منى زكي كبطلة استطاعت أن تتحول أمام الكاميرا إلى حالة فنية متكاملة. لقد دخلت مرحلة طويلة من التدريب المكثف الذي تجاوز التقليد الصوتي والحركي لتصل إلى أداء نفسي وجسماني متقن يظهر كل تعقيدات شخصية أم كلثوم. استطاعت منى زكي أن توازن بين وقار الشخصية وقوتها وبين هشاشتها الإنسانية لتعيد خلق أسطورة عاشت في الذاكرة الجماعية دون أن تصبح نسخة مكررة أو محاكاة ساذجة. الأداء يتنفس ويتحرك ويعيش على الشاشة مما يجعل المشاهد يصدق كل لحظة من لحظات حياتها المعروضة.
لم يكن أداء الممثلين المساعدين أقل أهمية إذ خلقوا شبكة علاقات درامية متماسكة دعمت البطلة وجعلت كل مشهد متكاملا بينما وظف مدير التصوير الضوء والظل بطريقة دقيقة لفتح طبقات جديدة من الدلالات وحركة الكاميرا كانت محسوبة بدقة لتقود المشاهد إلى قلب الحدث دون ضجيج تقني أو استعراض بصري مما يعكس انسجاما مع فلسفة الواقعية النفسية في الأداء.
ويظل دور المخرج مروان حامد محوريا في جمع كل هذه العناصر في رؤية واحدة متكاملة. لقد نجح في تقديم فيلم يقف على مسافة دقيقة بين التوثيق والإبداع معتمدا على منهج إخراجي قريب من المدرسة البنيوية حيث ينظر إلى الفيلم كنظام من العلامات المتكاملة لإنتاج المعنى. حافظ المخرج على إيقاع سردي هادئ ولكنه مشحون بالانفعالات الداخلية وترك مساحات للتأمل وهو خيار يتطلب ثقة كبيرة في قدرة الجمهور على القراءة المتأنية بدلا من الاستهلاك السريع.
خرجت من القاعة وأنا أشعر بأن فيلم الست لم يكن مجرد إعادة سرد لحياة أم كلثوم بل كان تجربة فنية متكاملة تربط بين كتابة مراد الدقيقة وأداء منى زكي المتقن وإخراج مروان حامد المدروس وتجعل المشاهد يعيد التفكير في الشخصية المعروفة ويشعر بأنها تولد أمامه من جديد. وإذا كان الفيلم قد نجح في شيء فهو النجاح في تقديم أسطورة معروفة بطريقة تجعلنا نراها لأول مرة حية نابضة ومعاصرة.

بقلم / الدكتور محمود كامل

أستاذ في أكادمية الفنون والأدب الانجليزي